بقلم: شيماء يوسف
لا يكاد القارئ يخرج من تجربة قرائية لعمل من أعمال كافكا الأدبية إلا وقد ترك كافكا شيئًا أو أثرًا في نفسه، سواء أكان ذلك الأثر إيجابيًّا أم سلبيًّا، وتلك إشارة مهمة إلى قدرة الكاتب على النفاذ إلى وجدان القارئ والعبث باستقراره.
في روايته “في مستوطنة العقاب”، أتصور أن الأثر الذي لم يدع كافكا قارئًا إلا وقد تركه في نفسه هو الحيرة الشديدة، التي خلفت بدورها تساؤلات عديدة لعل أهمها: كيف ولماذا انتهت القصة على هذا النحو الغريب والغامض؟ لماذا فعل الضابط ذلك بنفسه؟ لماذا شكلت تلك الآلة التعذيبية الوحشية أهمية كبيرة عنده، وما سر إعجابه الشديد بآلة تسحق الإنسان؟ أسئلة كثيرة، غير أن السؤال الأهم من كل هذه الأسئلة، والذي ينبغي أن نصب جل تركيزنا واهتمامنا عليه هو: ما الذي كان يحاول كافكا قوله من خلال هذه القصة؟ هل ثمة رسالة مشفرة تختبئ بين سطور روايته ينتظر قارئًا ما يجتهد في فك شيفرتها؟
تبدأ أحداث الرواية بزيارة محقق، أو كما يدعى في الرواية “المستكشف”، إلى جزيرة أو مستوطنة خاصة بتنفيذ الأحكام والعقوبات على المحكومين أو “المذنبين” بطريقة أقل ما يقال عنها إنها وحشية ولا إنسانية. يُنفذ الحكم من خلال آلةٍ تتكون من عدة أجزاء، أهمها المسحاة والمصمم.
المسحاة مطابقة في الشكل لجسم الإنسان وأجزائه “هنا مسحاة البدن، هنا مساحي الأقدام، أما للرأس فهناك هذا المسار الصغير”. تتدلى المسحاة -المكونة من زجاج- على جسد المحكوم كله، وعلى المسحاة إبر مزدوجة، لكل منها دور مختلف؛ فالإبر الطويلة تَشِم جملة على جسد المحكوم، وهذه الجملة هي وصية من الوصايا العشر التي خالفها المحكوم، والإبر القصيرة دورها غسل الدم الذي يخرج من عملية الوشم وتنظيف الجلد منه ليبقى الوشم نظيفًا وواضحًا. أما المصمم فهو المتحكم الرئيس في حركة المسحاة. أخذ الضابط يشرح عمل الآلة للمستكشف بحماسٍ شديد يلمع في عينيه ويتسرب من كلامه وحديثه، كان مهتمًّا جدًّا بشرح الآلة للمستكشف كأنها أحد أهم إنجازاته، وفي أثناء حديثه كان يشير دائما إلى “القائد القديم”، وهو صانع هذه الآلة والعقل المدبر لها. لكن المراقب “المستكشف” لم يهتم بالآلة أو آلية عملها بقدر اهتمامه بالمحكوم الذي يحاكَم أمامه بهذه الطريقة الوحشية، فقط لأنه نام في أثناء عمله حسبما قال النقيب الذي أخذ الضابط الإفادة منه ولم يكلف نفسه حتى أن يحقق مع “المذنب”، أصدر الحكم فورا بإعدامه. “الذنب ينبغي ألا يكون أبدًا موضع شك”. لم يكن المستكشف راضيًا ومؤيدًا لهذا الاسلوب العقابي الوحشي، لكنه آثر عدم التدخل.
أداة مملوكة بروحٍ وجسد
يصور لنا كافكا من خلال روايته كيف يستولي الطغاة والمستبدون (الضابط أنموذجا) على حياة المستضعفين، وأن أبسط عصيان لأتفه أمر من أوامرهم لن يكلفهم حياتهم ـالمسلوبة أصلًاـ فحسب، بل سيجعلها لا تطاق ولا تعاش، وسيغدو الموت بالنسبة إليهم الخلاص الوحيد، وحتى هذا الأخير لن يظفروا به بسهولةٍ قبل أن يسحقهم الألم والذل وهم على قيد الحياة.
هذه الآلة الوحشية ليست إلا إشارة إلى الاستبداد والطغيان اللذين يغدو من خلالهما الإنسان أداة مملوكة تُستخدم وقت الحاجة ويمكن التخلص منها في أي وقت. طريقة تصميم الآلة توحي بأن كل شبر في جسد المحكوم إنما هو تحت تصرف الطغاة الحر… يشمون عليه ويكتبون ما شاؤوا، كأن هذه الأجساد أجسادهم، ولا يحق للمحكوم الدفاع عن نفسه، بل وقد يموت وهو لا يعرف سبب حكمه وموته بهذه الطريقة المهينة.
المستبد لا يفرط في استبداده
حين عرف الضابط أن المستكشف سيقول رأيه وحكمه بكل صراحة عن الآلة التعذيبية للقائد الجديد الذي يعارض أصلًا هذا الاسلوب العقابي، أدرك حينها أن عمر هذه الآلة قد شارف على الانتهاء. أطلق سراح المحكوم. “أنت حر”، ومن فرط حماس المحكوم تحركت المسحاة بطريقة أثارت قلق الضابط على آلته فصرخ عاليا: “ستحطم أطواقي، ارقد ساكنًا، سرعان ما نفك قيودك”. وبعد أن فُكت قيود المحكوم وأطلق سراحه، رقد الضابط مكانه على المسحاة، لكن الآلة لم تكن تعمل بالطريقة المعتادة، ومن الواضح أن هذا ما أراده الضابط. تساقطت العجلات واحدة بعد الأخرى، أما المسحاة “لم تكن تكتب وإنما كانت تطعن فحسب”. وفي النهاية لقي الضابط حتفه.
لم تكن الآلة مجرد أداة عقاب بالنسبة للضابط، كان يفخر ويعتز بها كأنها أثمن مقتنياته، يشرح آلية عملها بحرصٍ واهتمامٍ بالغين وكأنها اختراع عظيم أوجده القائد القديم وشعر بأن من واجبه الحفاظ عليه بعد وفاته، وهنا ربما أراد كافكا أن يُخبرنا بأن المستبد لا يفرط في استبداده بسهولة، وإن حدث وحان وقت نهاية هذا الاستبداد فلا بد أن تكون النهاية -على الأقل- على يده هو ولا أحد غيره، حتى وإن كلفه الأمر أن ينتهي هو مع استبداده كما حدث مع الضابط الذي لم يحتمل أن يقضي القائد الجديد على آلته “المعجزة العلمية” على حد تعبيره فقرر أن يقضي هو عليها بنفسه ويموت بعدها ومن خلالها .
يُلقب كافكا بـ”الكاتب الكابوسي”، ولكن إذا أسقطنا كوابيس كافكا الأدبية على واقعنا -أحدها روايته “في مستوطنة العقاب”- فسنجد أنه ليس ثمة فرق حقيقي إن قلنا “كافكا كاتب كابوسي” أو “كافكا كاتب واقعي جدًّا”.
المصدر: تكوين
العاصمة عدن.. انطلاق عروض مسرحية هاملت وسط حضور جماهيري كبير
شبوة زاجل انطلقت في قاعة المجلس التشريعي في العاصمة عدن، السبت، عروض مسرحية (هاملت)، التي …